لقد طفح الكيل و بلغ السيل الزبى . إن كرامتي فوق كل اعتبار . و لن أسمح له أن يتمادى في غيه أكثر من ذلك .
و سوف أشكوه إلى معلمي لا محالة . إنه فض الطباع و سيئ السمعة و يجب أن ينال قسطا من العقاب الرادع له و لزميله الأحمق .. حتى يكف بذلك عنا أذاه و يريحنا من فضاضة أخلاقه .
و لكن ما يجز في نفسي وقوف زملائي بالفصل إلى جانبه . ليس ضدي تحديداً و إنما
هم هكذا لا يسمحون لأي أحد أن يفسد عليهم سعادتهم حتى و لوكنت أنا . فكثيراً ما يعجبون لحديثه و مغامراته الكاذبة .
ذات يوم شاهدته يعبث بمقلمتي دون علم مني فاندفع الدم إلى وجهي و أبديت له سخطي الشديد نحو تصرفه . و لفرط بجاحته استطاع أن يسحب مني ما يريده من المقلمة بخفة متناهية . و لسوء الحظ لم أعمد لتفقد محتويات مقلمتي بشكل دقيق . في
هذه الانثاء جاء من يخبرنا بأن أستاذ المادة لن يحضر هذا اليوم . صفق الجميع لهذا النبأ و سروا به سروراً عظيما . بينما وقف الطالب – سيئ الذكر – يستعرض آخر
تقليعاته . و إنما فعل ذلك ليريد الكلام . فاشرأبت له الأعناق و أرهفوا السمع و البصر
لأجله . قال و قد علت قسمات وجهه ابتسامه قبيحة :
- أصغوا إلي جميعا . و أمنعوا النظر لما سوف أفعله . هل أنتم مستعدون ؟
أجابوه بنعم . فأخرج من جيبه قلم المزيل الأبيض و عمد إلى باب الفصل ليكتب أسوء عبارة قرأتها في حياتي بحق أستاذ . و لما فرغ من ذلك علت صيحات إعجاب و ترحيب من الجميع . فما زاده إلا غبطة و سرورا . و عندما هم للكتابة مرة أخرى لاحت على الفور مني التفاتة على قلم المزيل الذي في يده.
و كانت شبيهة بالذي عندي . و فجأة أنقدح إلى ذهني أثر أمر ما . بدأت أفتش عن قلمي المزيل في مقلمتي فلم أجد لها أي أثر . طفقت أبحث عنها في درج الطاولة و بين ثنايا الكتب و لكن بلا جدوي . عندها ناوشتني الظنون و الوساوس إلى ما يشبه اليقين . و كأن الطالب الذي عبث للتو بالمقلمة هو نفسه من سرق القلم في غفلة مني.
و لما هممت لاسترجاعه منه . رماه من النافذة فزادني يقيناً أنه هو من سرق مني القلم . فأسفت لهذا كثيراً لأن العبارات الرعناء التي كتبها قد خطت بقلمي .
و فجأة و بلا سابق إنذار دخل علينا المعلم الرياضيات . و يبدو أنه لم ينتبه لما كتب عنه على باب الفصل . فوزع درجاتنا بعجل . و هم بالخروج . عندها وقعت عيناه على الكلمات الجارحة في حقه فاهتز لها بدنه و هو يستشيط غضباً . و أقسم إن لم نخبره بالفاعل سيعمد إلى إنقاض كل طالب . خمس درجات في السلوك .
أطرق الجميع كما لو أن على رؤوسهم الطير . فخيم عليهم الهدوء و السكون . بما فيهم صاحب الكلمات البذئية الذي راح يخفي وجهه . فما أشد جبنه و ما أتعس حظه . إن كان صاحب فزعة وهمة كما يظن فهذه أسنح فرصة له حتى يثبت للجميع أنه قوي و شجاع و يستحق هذه الشعبية الساحقة عن جدارة و استحقاق . فيعترف بذنبه .
و لكنه لاذ كالنعامة . فهذا ديدنه في مواقفه .
تفرست في وجوه أصحابي . محاولاً أن أسترق النظر إليهم واحداً بعد الآخر . و لم أخرج بأي نتيجة . فقد أصاخوا بعد أن استبد بهم الفزع .
حدثت نفسي قائلاً :
ماذا لو أنقذت الموقف و اعترفت له بالحقيقة . هل ياترى سوف أحصل على هذه الإمتيازات التي راحت إلى غير مستحقها و بالتالي أكبر في عين زملائي بالفصل و تتسع شعبيتي فتطغي على شعبية هذا الطالب .
أنها أسنح فرصة لي لأنتقم منه و أقتص لنفسي . و لكن كيف يكون وضعي بعد أن أخبره بالفاعل . و كيف يكون موقفي أمام الأصحاب و الزملاء . هل سوف يباركون لي تصرفي أم أن الأمر عندهم سيان . جربت الحديث فسبقني بها الطالب الفض . و كأنه على يقين من أني لن أفوت على نفسي هذه الفرصة فأعترف عليه و بالتالي أكسب الجولة . راح يختلق القصص و الأحداث و قد أتقن حبكتها الخبيث حتى كدت أن أصدقه . ووددت لو حطمت رأسه و ألجمت رأسه و ألجمت له لسانه . فما فائدة الاعتراف الآن بعد أن قطع الدم من وريده . و ها هو ذا المعلم قد صدق كل ماتفوه به هذا الطالب . فراح يثني عليه و يشكره عل حسن صنيعه . و طلب منه أن يمسح على الفوركل ما كتب عنه . و بسرعة البرق راح يفرك العبارات بطريقة عنيفة باجتهاد بالغ حتى انمحي تماما و عاد الباب كسابق عهده .
لم تنتهي الحكاية إلى هذا الحد . بل كافأ المعلم الطالب بدرجات إضافية نظير ما صنع.
و بدلاً أن يعاقبه أحسن إليه و أثني على تصرفه . لقد كسب الشقي الجولتين . و كسب بهما إعجاب الجميع .
أما أنا فلا تسل عني . فهكذا يخسر الضعفاء جولاتهم و لو كانوا أصحاب حق .